- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات / ٠1أمهات المؤمنين
- /
- ٠03عائشة بنت أبي بكر
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم الحديث عن موضوع الغيرة :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثاني عشر من سير الصحابيِّات الجليلات، ومع أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهنَّ أجمعين، ومع الدرس الثالث من دروس السيدة عائشة رضي الله عنها.
لقد احتلَّت السيدة عائشة رضي الله عنها مكانةً كبيرةً في بيت النبي، مما جعل أنظـار الصحابة تتجه بإعجابٍ, وإكبارٍ, واحترامٍ, وإجلالٍ, نحو بيت أم المؤمنين السيدة عائشة، لما خصَّها الله تعالى من الفضائل والمُكرُمات, مما أثار غيرة ضرائرها, أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين .
ما الغيرة؟ خصيصة في النفس البشريَّة, أودعت فيها, لصالح النفس، الإنسان إذا كانت الغيرة التي في نفسه تدفعه إلى الفضائل، وهي في الأصل حياديَّة، يمكن أن تدفعك إلى أن تنافس أخاك في شأن الآخرة، أو يمكن أن تدفعك الغيرة إلى أن تنافسه في شأن الدنيا، إذا نافسته في شأن الآخرة كانت غيرةً محمودة، وإن نافسته في شأن الدنيا كانت غيرة مذمومة، هي حياديَّة يمكن أن تستخدمها سلماً ترقى به، أو دركاتٍ تهوي بها .
فالغيرة أمر فطري في كل إنسان، هي في النساء أوضح، لكن لها حالات طبيعيَّة, ولها حالات مرضيَّة، الحالات الطبيعيَّة لصالح الإنسان، كم من إنسانٍ حفظ كتاب الله, لأنه أصابته الغيرة من حافظٍ آخر، كم من إنسان سلك طريق الإيمان, لأنه أصابته الغيرة من قريبٍ، أو صديقٍ، أو جارٍ, تفوَّق عليه في الإيمان .
أنا أضرب لكم مثلاً واضحاً جداً: كنت أُدعى كل عام لميتمٍ من أشهر مياتم دمشق، هذا الميتم إدارته تدعو كبار أغنياء الشام، ويقام حفل عشاء في رمضان، وتلقى الكلمات تحث هؤلاء الأغنياء على البذل والتضحية، كنت أكلَّف كل عام بأن ألقي كلمة أحث بها الأخوة المؤمنين، الذين امتنَّ الله عليهم بوفرة المال .
طبعاً حينما نفتح باب التبرُّعات يقول فلان: أنا أدفع مئة ألف, يقول زميله: أنا أدفع مئتين في ربع ساعةٍ أو أقل, يجتمع ستة أو سبعة ملايين، وفي العام الماضي ارتأت إدارة الحفل أن توزع على الأخوة المدعوين استمارة ورقية، كل واحد يكتب كم يتبرَّع من دون إعلام, فكان المبلغ ثمانمئة ألف، فالفرق واضح جداً، والإنسان أحياناً يندفع للعمل الصالح بدافع الغيرة، هذه غيرة لصالح الإنسان .
أنا أؤكد لكم: أنه ما من واحد من الأخوة الحاضرين، إلا اندفع إلى عملٍ صالح، أو إلى طاعةٍ لله، أو إلى إقبالٍ على الله، أو إلى تفوقٍ في العلم, بدافع غيرةٍ أصابته من أخٍ قريبٍ له، صديقٍ، جار، فالغيرة خصيصة من خصائص النفس البشرية حيادية, إن استخدمتها في أمر الآخرة, كانت سلَّماً ترقى به، وإن استخدمتها في أمر الدنيا, كانت دركاتٍ تهوي بها، فإذا غرت من أخيك في جمع المال، ونافسته في جمع المال، وضيَّعت دينك وآخرتك, كانت هذه الغيرة في غير موضعها, قال تعالى:
﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد﴾
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
يجمعون المال بدافع الغيرة من بعضهم بعضاً، فكل خاصةٍ في الإنسان، كل خاصةٍ على الإطلاق هي حياديَّة، يمكن أن توظِّفها في الحق, ويمكن أن توظفها في الباطل، يمكن أن توظفها في أمر الآخرة فترقى، ويمكن أن توظِّفها في أمر الدنيا فتهلك .
إذاً: الغيرة موجودة بكل إنسان، أما إذا انصبَّت في شأن الدنيا أصبحت حسداً، وإن انصبَّت على أمر الآخرة كانت غبطةً، قد تجد إنساناً تفوَّق عليك, فتغبطه وتسعى سعيه، تغبطه وتقتفي أثره، تغبطه وتنافسه، هذه منافسة محمودة, قال تعالى:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
المرأة تغار، ولو أنها كانت لا تغار, لسقطت من عين زوجها، لماذا يحبها زوجها؟ لأنها تغار عليه، لا تحتمل أن يميل إلى امرأةٍ أخرى، هذه خاصَّة، الأزواج أحياناً يتألَّمون من غيرة زوجاتهم، أما لو تصوروا العكس, أنه ذهب، وسهر، وخالط، ولم تتكلَّم ولا كلمة، يشعر أنها لا تحبه، وقد تخرج من قلبه، فالغيرة صفةٌ متمكنة في بني الإنسان, وهي في النساء أوضح، فلها وضعٌ طبيعي, ولها وضعٌ مرضي .
الوضع المرضي أن امرأةً تعرف زوجها؛ مؤمناً، مستقيماً، لا يحيد لا يمنةً ولا يسرةً, ومع ذلك إذا اتصلت به امرأةٌ على الهاتف, لا يقر لها قرار، هذه غيرة مرضيَّة ينبغي أن تُعالج لتبرأ منها .
المكانة التي احتلتها السيدة عائشة في قلب النبي :
أيها الأخوة, حينما جاءت هذه السيدة الفاضلة إلى بيت النبي في المدينـة، الصحابة الكرام عرفوا أنها بنت السيد الصديق رضي الله عنه، وهو من أحب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت شابةً ذكيةً، على مستوى رفيعٍ جداً من العقل والفهم، اتجهت أنظار الصحابة إلى هذا البيت الثالث, بيت السيدة عائشة .
أمهات المؤمنين وقعن في الغيرة، وهذا الشيء من طبيعة المرأة، والنبي عليه الصلاة والسلام عبَّر عن هذه الحقيقة, فقال:
((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ, فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ))
أنت مكلَّف أن تعدل بين الزوجات، هذا العدل التام، أما العدل المُطلق ليس في وسعــك، ولا في طاقتك، ولن تستطيعه .
في صحيح البخاري يروي لنا هشامٌ عن أبيه رضي الله عنه, قال:
((كان الناس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة .
-فهي زوجة جديدة, أدخلت على قلب النبي السرور، بعد أن ماتت زوجته الوفيَّة السيدة خديجة، وجاءت من مكة إلى المدينة، وسكنت في غرفةٍ من غُرف المسجد، فصارت الأنظار تتجه إلى هذا البيت- فقال:
فكان الناس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة, فقلن: يا أم سلمة, والله إن الناس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري النبي صلى الله عليه وسلَّم, أن يأمر الناس أن يُهدوا إليه, حيث ما كان، أو حيث ما دار .
-أنا أقول لكم هذه الكلمة: الإنسان لأنه بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، فإذا انتصر على نفسه يرقى .
نساء النبي عليه الصلاة والسلام كل منهن امرأةٌ مستقيمة، لكنها تحكمها خصائص النساء .
مرَّة أهدت السيدة صفيَّة, أهدت إلى النبي طبق طعامٍ طيِّب، السيدة عائشة ما تمكَّنت أن تخفي غيرتها، فأمسكت الطبق وكسرته، فالنبي عرف طبيعة المرأة فورد عنه:
((غضبت أمكم, غضبت أمكم))
فأحياناً الإنسان لا ينبغي أن يُطالب زوجته أن تكون مثله, هو رجل، وله إدراكٌ واسع ، وله طبيعةٌ خاصة، وهي لها طبيعة خاصة, هكذا فطرها الله عليها- .
فذكرت أم سلمة ذلك للنبي، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي, ذكرت له ذلك, فأعرض عني، فلما كانت الثالثة ذكرت له, فقال: يا أم سلمة, لا تؤذيني في عائشة .
-وهنا في نقطة دقيقة، الله عزَّ وجل قال:
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾
في الكون عدلٌ مطلق، وربنا حكمته مطلقة، وأفعاله كلها حكيمة، فأنت إذا رأيت أن الله سبحانه وتعالى أعطى إنساناً شيئاً, ينبغي ألّا تحقد وألا تحسد, لكن لك أن تغبط، ولك أن تسير في الطريق الذي سار فيه, صدق القائل:
ملك الملوك إذا وهب قم لاتسألَنَّ عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقف على حـدِّ الأدب
يا أم سلمة, لا تؤذيني في عائشة, فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي, وأنا في لحاف امرأةٍ منكن غيرها))
فيبدو أن هذه الزوجة الطاهرة, كانت من أقرب الزوجات إلى الله عزَّ وجل، ومن أعلمهن بكتاب الله .
فقد تجد شخصاً اجتهد, وبذل وقته, وماله, وجهده في سبيل الله، والله عزَّ وجل رفع ذكره، أعلى شأنه، أنت ينبغي أن تسلك سبيله لا أن تحسده، ينبغي أن تسلك سبيله لا أن تحاول أن تنتقص منه، لا أن تحاول أن تسفِّه آراءه، إن رأيت في إنسان ميزة, فقل: إن الله يعطي من يشاء، فقف على حد الأدب .
ثم إن أمهات المؤمنين حاولن محاولةً ثانية مع السيدة فاطمة رضي الله عنها، أن تكلِّم أباها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، فلم تُجدِ محاولتها شيئاً .
فقد روى مسلمٌ في صحيحه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلَّم, قالت:
((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلَّم فاطمة بنت رسول الله إلى رسول الله، فاستأذنت عليه وهو مضطجعٌ، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله, إن أزواجك أرسلنني إليك, يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة, وأنا ساكتة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلَّم: أي بنيَّة! ألستِ تحبين ما أحب؟.
-طبعاً، فلا يمكن إلا أن يعدل النبي بين زوجاته، لأن النبي مرةً قال له أعرابي: اعدل يا محمد, فقال له النبي صلى الله عليه وسلَّم:
((ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟))
لكن الله عزَّ وجل ما كلَّفنا فوق ما نطيق، الإنسان صاحب الفطنة، وصاحب الأدب الجَم، وصاحب الخُلق الرفيع، هذا تميل إليه دون أن تشعر، هذه سنة الله في خلقه, جبلت النفوس على حب من أحسن إليها, وبغض من أساء إليها .
مثلاً: شخص دائماً ينتقدك، يحاول أن يعارضك، يحاول أن يطعن في تصرفاتك، فهل ينتظر منك أن توده مودة عالية؟ بينما إنسان آخر أديب جداً، لطيف جداً، في خدمتك دائماً، فشيء من طبيعة البشر أن تميل إلى هذا المحسن الأديب الذي يتحرَّى راحتك، والإنسان الثاني الذي يتهجَّم عليك, فنفسك تنفر منه بشكل طبيعي، لذلك فالنفس لها قوانين، أنت كإنسان مكلَّف أن تعدل العدل التام، أما العدل المطلق, فهذا لا تستطيعه لا أنت ولا غيرك، لأن النفوس جبلت على حب الكمال، على حب الجمال، على حب النوال .
الإنسان يحب الجمال, والكمال, والنوال، الذي يعطيك تحبه، والذي تـراه كاملاً تحبه ، والذي منحه الله شكلاً جميلاً تحبه .
فأحياناً يكون شخص عنده ابن له تألُّق، تجد الأب يميل إليه أكثر من أخوته، لكنه مكلَّف أن يعطي أولاده بالسواء، مكلَّف أن يمنحهم العطف بالسواء، لأن هذا القلب بيد الله عزَّ وجل، وقد عبَّر عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام:
((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ, فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ))
أي بنيَّة! ألستِ تحبين ما أحب؟ قالت: بلا, قال: فأحبي هذه, -أي عائشة .
فأنا أقف عند هذه النقطة قليلاً؛ مثلاً: شاب له أب، هذا الشاب يتهجّم على أبيه، يبدو سوء أدب من هذا الشاب، ومحاسبة شديدة، وعدم احترام، وابن ثانٍ في غاية الأدب، والإخلاص، والاحترام، والتلبية، أينتظر الأول الأقل أدباً، والأقل خدمةً من الأب, أن يحبه محبة رائعة؟ هذا الشيء مضحك، الأب إنسان ويميل إلى حيث يرى الفضل، والأدب، والعطف، والرحمة، والخدمة، فأنت لا تطالب الناس أن يحبوك محبةً لا تساوي عملك .
وهذا إنسان بعقله قصور، الذي ينتظر من الناس أن يمحضوه حبهم، وإخلاصهم، وتفانيهم, وهو يسيء إليهم، هذا شيء مستحيل، هذه طبيعة النفس البشريَّة، إن أردت أن تنعقد حولك القلوب فأحسن إليهم، والإنسان الكامل يملك القلوب، بينما الإنسان القوي يملك الرقاب، وشتَّان بين أن تملك القلوب وبين أن تملك الرقاب، بونٌ شاسع بين الحالتين .
فمثلاً: زوج قاسٍ، يحب نفسه، أينتظر من زوجته أن تموت في حبه؟ لا لن تموت في حبك، ولن تهتمَّ بك، إن لم تهتم بها فلن تهتم بك، إن لم ترع حقوقها فلن ترعى حقوقك، فكن واقعياً، كن منطقياً- .
فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فرجعت إلى أزواج النبي, فأخبرتهن بالذي قاله، وبالذي قال لها النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقلن لها: ما نراكِ أغنيتِ عنا من شيء، فارجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم, فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة, فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً .
-النبي يتصرف بالعدل المطلق، بالعدل التام بين زوجاته, لكن أين قلبه يميل؟ هذه لا يملكها أحد- .
ثم أرسلن زينب بنت جحشِ زوج النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكانت تضاهي عائشة عند رسول الله في الحظوة والمنزلة، فتكلَّمت في ذلك, فلم تُجْدِ في كلامها شيئاً, ثم قال عليه الصلاة والسلام معلناً مكانة زوجه عائشة:
((إنها ابنة أبي بكر))
أرأيتم إلى هذا الوفاء؟ فالإنسان أحياناً يتألَّم أشد الألم حينما يمحض كل إخلاصه، وكل حبه، وكل خدمته لإنسان, ثم ينسى له هذا الإنسان ذلك كله، أما النبي فهو أوفى الأوفياء ، ما من إنسان أعطى النبي عليه الصلاة والسلام كل اهتمامه كسيدنا الصديق، وهذه ابنته، فلأنها بنت أبي بكر لها عند النبي حظوةٌ خاصَّة .
ما هو السبب الذي دفع ضرائر عائشة للغيرة منها, وهل كانت تغار عائشة منهن, وما هي العبرة من وجود مشكلات في بيت النبي ؟
أيها الأخوة, السيدة عائشة أيضاً تغار من أمهات المؤمنين، كانت أمهات المؤمنين يغرن على رسول الله من عائشة، وكانت عائشة بينهن أشدهن غيرةً عليه منهن، وعذرها أنها أول من تفتَّح قلبها لحب النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد خديجة، حيث كانت خطبتها بعد وفاة خديجة رضي الله عنها، وأنها أصغرهنَّ سناً، وما تزوَّج عليه الصلاة والسلام بِكراً غيرها, فلديها أسباب لِتزهو على ضرَّاتها؛ أصغرهن سناً، وبنت أحب الخلق إليه، وكانت الوحيدة بينهن بِكراً من بين أزواج النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا الدرس له معنى، بكل بيت مشكلة، والنبي بشر, قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
طرق رجل باب سيدنا عمر, ليشكو له زوجته، فسمع صياحاً، فولَّى هارباً، سيدنا عمر سمع الباب يطرق, ثم توقَّف الطرق, فخرج فرأى أعرابياً، فدعاه, رجع، لمَ طرقت وانصرفت ؟ قال له: جئتك أشكو مما أنت منه تشكو .
أخواننا الكرام, إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح, فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء .
الدنيا مركَّبة على المشكلات، مركبة على بعض النقص رحمةً بالإنسان، تصور لو أن الدنيا جاءتك كما تريد, لكرهت لقاء الله، لكن ما الذي يدعونا إلى أن نشتاق إلى لقاء الله عزَّ وجل؟ فالدنيا المتعبة التي لا تستقيم لإنسان إطلاقاً، إن جاءت من جهة, تذهب من جهة، إن منحت المال, فليس عندك من الأولاد, ما يستأهلون هذا المال، وإن جاءك الأولاد الأبرار قد لا تجد المال الكافي لهم، وإن حظيت بزوجةٍ صالحةٍ لا تُنجب، وإن أنجبت قد يكون أولادها على غير ما تريد، وإن كان الأولاد على ما تريد, هناك علَّةٌ في الصحة، فما من إنسان اكتملت دنياه، ولو أنها اكتملت, لكره الناس لقاء الله عزَّ وجل، فأحد الأسباب في أن الإنسان يتمنى لقاء الله أن الدنيا متعبة .
رأى النبي عليه الصلاة والسلام جنازة فقال:
((مستريح ومستراح منه, فقالوا: ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: أما العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها, والعبد الفاجر يستريح منه؛ العباد, والبلاد, والشجر, والدواب))
ليس في الدنيا شيء أثمن على الإطلاق من أن يموت أحدنا على الإيمان، وينجو من فتنة الدنيا, فتنة المال، فتنة النساء، فتنة العلاقات الاجتماعية، فتنٌ لا تعدُّ ولا تحصى
ولقد كانت الغيرة تنتاب عائشة إذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلَّم سيتزوج بعدها، ها هي تغار من زواج النبي من حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تضيق بيوم سودة التي كانت زوجة النبي الكريم في مكة، فلما علمت بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوَّج حفصة, سكتت على مضضٍ وغيرة، واحتارت ماذا تفعل؟ إذ كانت تعلم مكانة أبيها عمر عند النبي، فهو بعد أبي بكر في المنزلة والحظوة عنده صلى الله عليه وسلَّم, فجاءت حفصة لتكون ضرّة أخرى .
هناك نقطة دقيقة جداً: لو لم تحدث مشكلات في بيت النبي، كيف يكون قدوةً لنا؟ لو لم يكن أية مشكلة في بيته إطلاقاً, فلأمر يلتبس عندنا؛ الغيرة مشكلة، تنافس زوجاته مشكلة، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام سارت حياته في البيت بشكلٍ مثاليٍ مُطلق، كيف يقف الموقف الكامل من مشكلةٍ تنشأ في بيت المسلمين؟ إذاً: النبي مشرِّع .
أوضح مثل على ذلك:
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ من اثْنَتينِ فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَينِ: أَقُصِرَتْ الصَّلاَةُ أَمَّ نَسِيتَ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو اليَدَينِ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى اثنَتينِ أُخرَيَينِ, ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثلَ سُجودِهِ أَوْ أَطولَ, ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ, ثُمَّ سَجَدَ مِثلَ سُجودِهِ أَوْ أَطولَ))
لولا أن الله أنساني كي أصلي الظهر ركعتين، كيف أسن لكم سجود السهو؟ إذاً: ما يحصل في بيت النبي من مشكلات مخرج لنا من مشكلاتنا، فالله عزَّ وجل قال:
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾
هذا شيء ثابت بالقرآن, قال تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
والنبي خيَّر زوجاته بين أن يخترنه أو يخترن الدنيا, قال تعالى:
﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾
معنى ذلك: أن القرآن أثبت أن هناك مشكلات في بيت النبي، وإزاء هذه المشكلات, وقف النبي منها موقفاً كاملاً، قدوةً لنا نحن المؤمنين .
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد محاولاتٍ كثيرة من زوجاته الطاهرات، وما نشب بينهنَّ من غيرة، أخذ موقفاً حازماً فاعتزل نساءه كلَّهن .
مضى شهرٌ بأكمله في شغلٍ عنهن، وهن في شغلٍ به، فمنهن من روَّعها الهجر، ومنهنَّ من كانت ترقبه في عُزلته، دون أن تجرؤ واحدةٍ منهنَّ أن تخاطبه في أمرها، حتى إذا استكمل الهجر شهراً بتمامه, عاد عليه الصلاة والسلام إلى نسائه مكتفياً بتأديبهن بذلك الإنذار ، لئلا يعُدن إلى مثل ما فعلت بعض أزواجه .
فهذه المنافسة بين زوجاته الطاهرات، وهذه الغيرة الحادة، هذا مما يضعف صفاء النبي عليه الصلاة والسلام، فاتخذ هذا الموقف، وتركهن جميعاً شهراً بأكمله، فلما انتهى الشهر, بدأ ببيت عائشة فدخله، واستقبلته في عتابٍ رقيق، قالت:
((يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, قلت كلمةً لم ألقيِ لها بالاً, فغضبت علي .
-هذا يفيدنا لو أنّ إنساناً نشب خلاف بينه وبين زوجته, يعوِّد نفسه أن يكون لطيفاً، وتعوِّد الزوجة نفسها أن تعتذر، والاعتذار أحياناً يذيب المشكلة
انظر لهذا الموقف: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, قلت كلمةً لم ألقي لها بالاً فغضبت علي, ثم أقبل على أهله, -وهي مستطردة في قولها-
أقسمتَ أن تهجرنا شهراً, ولمَّا يمض منه غير تسعٍ وعشرين, تقول هذا مداعبةً له، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم, الشهر يكون تسعةً وعشرين))
فمن اللطف أن يكون هناك كلام لطيف جداً بين الزوجين، مداعبة بالقول، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته بسَّاماً ضحاكاً، كان إذا دخل البيت واحد من أهل البيت، يقول عن النساء:
((فإنهن المؤنسات الغاليات))
فأنا أرى أن من أعقل الرجال الذي عنده مودة، ولطف، ونفس هنيَّة، وأن تكون كلمات معسولة من الزوج, ومن الزوجة، والعمر لا يحتمل خصومات طويلة .
طبعاً: كان الحديث عن المشكلات التي جرت في بيت النبي وهو حديثٌ يطول، لكن النبي بشر، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر .
وأنا أعتقد أن الإنسان المؤمن الموفَّق هو الذي يؤتى الحكمة في معاملة زوجته، يسعد بها وتسعد به، العمر قصير لا يحتمل خصومات مديدة، فالنبي أدَّبهُنَّ شهراً، لكن تجد إنساناً يؤدِّب أهله سنة، سنتين، ثلاثة، لكنّه أدبهُنَّ شهراً, وانتهى الأمر .
وأنا أتمنى على كل زوج أن يضع حداً للخصومة، إذا كانت هناك مشكلة, وعلى أثرها خرجت من البيت، فينبغي أن تعود، وكأن شيئاً لم يكن، هذه وصيَّة ثمينة جداً، عوِّد نفسك عليها.
أما هذا الامتداد بالخصومة؛ أسبوعاً وأسبوعين، وشهراً وشهرين، وسنة وسنتين، وكل واحد راكب رأسه، وكل واحد متعنِّت، فشقيت وأشقيت، مهما كنت أنت الأقوى, شقيتَ مع زوجتك .
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان قدوةً لنا في حسن معاشرته زوجاته، وكما قلت لكم من قبل: آياتٌ كريمةٌ وكثيرةٌ تبيِّن أن النبي عليه الصلاة والسلام عانى من الزوجات، والمرأة امرأة, ولها طبيعةٌ خاصة، تغار أشد الغيرة، وتحرص على الدنيا أشد الحرص، وتريد أن يكون زوجها لها، فما من زوج إلّا إذا زار أهله، فإذا قدَّم هديَّة لأهله, تنشأ مشكلة؛ لأن هذا الزوج لها وحدها، أما هو فله أم، وله أخوات، وله أخوة، هذه مشكلات تعالج بالحكمة، تعالج بالعدل، تعالج باللين، بالموعظة الحسنة، أما المواقف العنيفة؛ رأساً طلَّق، رأساً ضرب، والضرب أحياناً يترك ندبة في النفس لا تندمل أبداً .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذا الموضوع في درسٍ قادم .